مبادرات لتعويض حلقات النقاش على الفيسبوك.. والانقسام سيد الموقف
الرافضون: التجمعات الإلكترونية تفتقد التفاعل الإنسانى.. والمؤيدون: نتعامل مع بداية جديدة للعالم
تعد المقاهى إحدى ساحات الحوار والتنوير والتفاعل الأدبى، خاصة التى اعتاد المثقفون ارتيادها، وفى ظل أزمة فيروس كورونا المستجد (كوفيد - 19) التى فرضت العزلة الإجبارية عليهم، دشن البعض منهم مبادرات للتجمعات الثقافية الإلكترونية، لتعويض لقاءاتهم قبل تفشى الفيروس، لكن أغلب المثقفين لم يتفاعل معها، لافتقادها التفاعلات الإنسانية التى تسود لقاءاتهم.
«السوشيال ميديا» البديل المتاح
أسست الشاعرات هدى عمران وزيزى شوشة وأمل إدريس هارون، على موقع "فيسبوك"، قبل أيام، ما أطلق عليه "الكارنتينا"، وهى مدونة إلكترونية، أو "مجلة صغيرة"، أو "مقهى فيسبوكى"، ترفع شعار "ضد فكرة نهاية العالم"، وجاء فى التعريف الخاص بها: "مهتمة بالفن والأنثربولوجى.. نسعد
«السوشيال ميديا» البديل المتاح
أسست الشاعرات هدى عمران وزيزى شوشة وأمل إدريس هارون، على موقع "فيسبوك"، قبل أيام، ما أطلق عليه "الكارنتينا"، وهى مدونة إلكترونية، أو "مجلة صغيرة"، أو "مقهى فيسبوكى"، ترفع شعار "ضد فكرة نهاية العالم"، وجاء فى التعريف الخاص بها: "مهتمة بالفن والأنثربولوجى.. نسعد بتبادل الآراء والأفكار فى هذه الظروف الغريبة، بما يعكس اهتماما ببداية جديدة للعالم".
ودشن الكاتب عماد العادلى، ما سماه "الرواق الفلسفى المصور"، مشيرا إلى أن الفكرة تقوم على نشاط تفاعلى، هدفه تبسيط المفاهيم الفلسفية وجعلها مستساغة للمتلقى العادى، وأيضا إزاحة اللبس والغموض المحاط بمصطلحاتها، ومحاولة لتبرئة ساحة الفلسفة مما علق بها من اتهامات من أول أنها باب للكفر والإلحاد، وصولا إلى أنها تحيا فى برج عاجى، موضحا: "أنطلق من سعى إلى ربط الفلسفة بالحياة المعاشة من دون إهدار هيبتها".
ويقول العادلى: "نظرًا للظروف التى يمر بها العالم كله، ولصعوبة التواصل المباشر مع الناس فكرت فى عمل الرواق مصورًا، وإذاعته عبر الوسائل الإلكترونية، ولاقى الأمر استحسانا ملحوظا عند الإطلاق التجريبى، أقوم الآن بالإعداد لجعل هذا الرواق الإلكترونى دائما بعد انزياح غمة كورونا، وذلك بجوار الرواق المباشر مع الناس".
أشهر مقاهى ملوك الفكر
أدت المقاهى دورا كبيرا فى تشكيل الحركة الأدبية والثقافية، وأحيانا السياسية، وتعد أشهر مقاهى القاهرة: "أفندية" قرب جامع الأزهر، و"متاتيا" أو "قهوة البوستة" بوسط القاهرة بين ميدانى العتبة والموسكى، و"الرتز" أمام البنك الأهلى بقصر النيل، ومقهى "اللواء" الملقب "بمنتدى الظرفاء والشعراء" بمنطقة باب اللوق، وهو المسمى باسم " جريدة اللواء".

بالإضافة إلى مقهى "الكتبخانة" المواجه لمبنى دار الكتب بشارع محمد على، الذى كان المقر الرسمى لشاعر النيل "حافظ بك إبراهيم" وكان من كبار موظفى دار الكتب المصرية، ومعه تابعه الذى لا يفارقه الشاعر الأسمر اليائس إمام العبد، وكان حافظ إبراهيم، لا يصعد إلى مكتبه فى دار الكتب إلا قليلا، حيث كان يباشر مهام منصبه وهو يدخن الشيشة ويحتسى القهوة فى هذا المقهى، وبالتالى تحول المقهى إلى منتدى ثقافى كبير يحضره الكثير من رموز الأدب والفن منهم أم كلثوم وعبد العزيز البشرى والشاعر محمد البابلى وآخرون.
وينضم لقائمة المقاهى الثقافية مقهى "ريش" و"الفيشاوى" الأشهر فى القاهرة، بالإضافة إلى "عرابى" بمنطقة العباسية، ومقهى "محمد عبد الله" أشهر مقاهى الأربعينيات والخمسينيات، و"سفنكس" بشارع طلعت حرب أمام سينما راديو، و"إيزافيتش" فى قلب ميدان التحرير، وهو من أشهر مقاهى الستينيات فضلا عن "البستان والحرية والندوة الثقافية والحميدية".
المزاج العام أصبح سيئ.. والحميمية غابت
يؤكد القاص والناقد الكبير صابر رشدى، أنه افتقد المقهى الثقافى فى زمن الكورونا، ولم يعد الفضاء الإلكترونى ووسائل التواصل الاجتماعى والمبادرات الإلكترونية الثقافية تعوض عنه، موضحا أن اللقاء الإنسانى أهم وأكثر حميمية، بينما ألغت كورونا الحميمية التى تخلقها أجواء المقاهى الثقافية، التى تشهد السجالات الثقافية والتبادل المعرفى والإبداعى.
ويشير رشدى، أحد أبرز رواد مقهى البستان بوسط القاهرة، فى تصريحات لـ"التحرير"، إلى أن المزاج العام أصبح سيئا نتيجة العزلة التى يعيشها معظم الناس وليس المثقفين فقط، منوها بأن المقهى الثقافى أحد المصادر التى شكلت وعيه، وأن اللقاءات التى ابتدعها البعض والتى تتم عبر وسائط إلكترونية مثل "واتس آب وفيسبوك" لا تعوض اللقاء الإنسانى الذى يتميز بالمودة والإضافة الإنسانية والإبداعية، لافتا إلى أن أكثر ما يزعجه حاليا هو مصير الفئات المهمشة فى زمن كورونا خاصة العمالة غير المنتظمة والعمالة اليومية التى تعتمد على "رزق اليوم بيومه".
ويقول صاحب المجموعة القصصية "شيكولاتة نيتشه": "إننا نعيش حاليا ظرفا استثنائيا مليئا بالأخبار البغيضة والتعسة الناتجة عن الضغط الإخبارى عن كورونا ومخاطرها على البشرية جميعا، فالعالم حاليا يتشكل من جديد"، مشيدا بما كتبه وزير الثقافة السابق شاكر عبد الحميد حول "ما بعد الكورونيالية" الذى يشرح المشهد بتحليل عميق.
العزلة أعطتنا فرصة أكبر للقراءة
يقول رؤوف عبد الحميد القاص والحكاء وعضو أتيليه القاهرة الثقافى منذ 20 عاما، إن المثقفين لديهم بدائل كثيرة للاستفادة من هذه العزلة التى فرضتها أزمة كورونا، إذ سمحت بمزيد من الاهتمام بالقراءة وأعطتهم فرصة أكبر للاطلاع على الكثير من الكتب، لافتا إلى أن الواقع الافتراضى لم يعوض المنتديات الثقافية التى اعتاد أن يرتادها أسبوعيا مثل ورشة الزيتون التى تعد يوم الإثنين من كل أسبوع ومنتدى بتانة الثقافى وغيرها من الفعاليات الثقافية وندوة الجمعة على مقهى زهرة البستان، الذى يلتقى عليه كبار الكتاب مثل سعيد الكفراوى وإبراهيم عبد المجيد والشاعر الكبير عبد المنعم رمضان وغيرهم، مشيرا إلى أنه دعا لعدد من المبادرات الثقافية الإلكترونية لكنها لم تحظ باهتمامه وسرعان ما غادرها.
متعطشون للمنتديات الثقافية
يقول الشاعر والناقد الأدبى شعبان يوسف، فى تصريحات لـ"التحرير"، إن المثقفين متعطشون للثقافة والمنتديات الثقافية بعد غياب التفاعل الثقافى بينهم فى زمن الكورونا لكنها تعد أيضا فرصة للقراءة، لافتا إلى أنه شخصيا استيقظ منذ بداية عمله الثقافى على ندوات نجيب محفوظ فى مقهى ريش وندوة إبراهيم فتحى فى مقهى على بابا يوم الأحد.
وأشار إلى دور المقهى الثقافى فى نشاط الحركة الأدبية والسياسية فى بعض الأحيان، إذ إن أغلب السجالات والمشاحنات الثقافية كانت على المقاهى الثقافية، وأن الفضاء الإلكترونى غير مجد وغير مفيد، ولذلك أغلقت صفحته على موقع "فيسبوك".
ما بعد الكورونيالية
غلق المقاهى بسبب تفشى وباء كورونا، وضع المثقفين فى عزلة إجبارية، وهو ما دفع الدكتور شاكر عبد الحميد وزير الثقافة الأسبق وأستاذ علم نفس الإبداع، لكتابة مقال من حلقتين فى جريدة الشرق الأوسط، تحت عنوان "ما بعد الكورونيالية" إذ يقول: "يعيش العالم الآن فى ظل وباء أشبه بالكابوس المستمر المخيف، ربما لم يكن هو أكثر الأوبئة التى مرت على البشر قسوة ومرارة، لكنه بالتأكيد أكثرها غموضًا، إنه وباء قد اجتاح العالم كطوفان كونى ولم تزل الدنيا تترنح تحت ضرباته وتئن، وقد يستمر هذا الأنين لوقت طويل".
ويضيف خلال مقاله: "إن قراءة متعمقة فى تاريخ الأوبئة والطواعين سوف تفضى بنا إلى معرفة خصائص الأوبئة السابقة التى مرت على البشر، والتى تنطبق أيضًا على هذا الوباء الأخير المسمى بالكورونا. فقد كانت تلك الأوبئة أيضًا فى أغلب الأحوال ذات طبيعة عالمية، أى أنها معولمة الطابع، وكذلك قيل إن مصدر الكثير منها هو الشرق، وقد تكرر ذكر الصين فيما يتعلق بأكثر من وباء، كما ورد ذكر مصر أيضًا فيما يخص طاعون جستنيان الذى أصاب الإمبراطورية البيزنطية الشرقية ما بين عامى 541-542 ميلادية، ويقال كذلك إن مصدر الكثير من الأوبئة هو الحيوانات والطيور والحشرات والفئران والبراغيث فى الماضى، والخنازير والخفافيش فى الحاضر".
وتابع: "كما أن هذه الأوبئة هى فى الغالب ذات طابع «كُمونى» أى أنها تظهر ثم تكمن ثم تعود، إنها تعود وتتجلى على أنحاء شتى، لكنها أبدًا لا تختفى، إنها تعيش معنا، أحيانا فى الظل وأحيانا فى النور، لكنها فى الغالب ظلية الطابع تنعم بالتخفى والغموض والسرية، كذلك كان يسبق الأوبئة أو يعقبها تدفق فى الفكر والحياة، فقد كان وباء جستنيان تمهيدًا لقدوم العصور المظلمة بينما كان وباء الموت الأسود (1347-1352) تمهيدًا لظهور عصر النهضة، وكان وباء الإنفلونزا الإسبانية عام 1918 مقدمة لنهضة فنية وأدبية وعلمية هائلة لاحقة جاءت عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى".
ويقول عبد الحميد: "يرتبط ما حدث فى المرحلة ما بعد الكورونيالية كذلك باكتساب البيت لدلالات أخرى لم تكن له، لقد صار يجمع بين الألفة والوحشة، الأمن وغياب الشعور بالطمأنينة، لأن ما يوجد خارجه من مصادر خوف وموت أصبح يأتى إليه عن طريق التليفزيون ومواقع التواصل الاجتماعى".
ويكمل: "فى الماضى ارتبط مصطلح فقدان البيت الأليف بتلك السرديات الكبرى الخاصة ببناء الأمم والإمبراطوريات والتمرد ضد الاستعمار والسلطات المستبدة الطاغية وغيرها من تلك المواقف التى تتراكم فيها حالات فقدان اليقين والالتباس والحيرة والقلق الجماعى، قلق الأمة والشعب، فيما يتعلق بالانقسام والازدواج بمستوياته ومعانيه، وكذلك فيما يتعلق بالخوف والشعور بالتهديد، والغربة والغرابة، وفقدان الاستقرار والتشرد، وهيام الناس على وجوههم، وفقدانهم للبيت أو الوطن الحميم، والآن ظهرت فئة جديدة من البشر؛ إنها فئة «العالقين»، إنهم ليسوا من المُشرَّدين أو اللاجئين أو المنفيين بعيدًا عن أوطانهم، بل الذين تركوا أوطانهم بإرادتهم سعيًا وراء الرزق أو طلبًا لحياة أفضل، فإذا بهم يجدون أنفسهم غير قادرين على العودة إلى أوطانهم حتى لو رغبوا فى ذلك، لقد أصبحوا عالقين فى بلاد غريبة، غير راغبين فى البقاء فى تلك البلاد التى كانت أملاً وهدفًا لهم، ولا قادرين على العودة إلى أوطانهم التى غادروها لأنهم كانوا لا يشعرون بالألفة خلال وجودهم الأول فيها".
ويتابع: "لقد دخلوا حالة «المَطْهر» و«هو مكان «المابين» الذى يتم تطهير العصاة فيه حتى يصبحوا آهلين لملكوت الله فى المعتقد الكاثوليكى». لقد أصبحوا عالقين أو مُعلَّقين فى تلك المنطقة الغريبة المُوحِشة بين وجود غادروا إليه ويريدون مغادرته الآن، ووجود وطن تمنوا فى الماضى أن يغادروه ثم يريدون العودة إليه الآن لكن دون جدوى".
ويؤكد وزير الثقافة الأسبق: "لم يعد ما يهم الإنسان الآن بناء الإمبراطوريات ولا إقامة المدن الجديدة والدول بل أن يبقى على قيد الحياة، أن يبقى فقط فى بيته، هذا الذى لم يعد بالنسبة لكثيرين هو الوطن بمعناه الشامل، بل مجرد جدران أربعة تؤويهم وتحافظ عليهم. هل هذه فرصة للطُّغاة؟ ربما، هل هى فرصة للمستغلين؟ ربما، لكن هذه الكائنات البشرية المُحْتجَزة مؤقتًا فى بيوتها لن تبقى كذلك طويلا هناك، إنها لا بد وأن تخرج إلى واقع أفضل وأكثر إنسانية، واقع تضامنى تشاركى وأكاد أقول اشتراكى إنسانى، وإلا حدث ما لن تحمد عقباه".
ويختتم عبد الحميد: "إن بعض المفكرين ومنهم إدجار موران، يرون أنه سيكون هناك، ما بعد مرحلة الكورونا الحالية، شفافية سياسية أكثر، ونظام صحى أفضل، وعولمة أكثر إنسانية، وسقوط للنزعة النيوليبرالية وكذلك للرأسمالية المتوحشة والعولمة الاقتصادية لصالح العولمة الثقافية والتضامن بين البشر، بينما يرى آخرون أن النيوليبرالية ستكون أكثر هيمنة، وستفتح الأسواق أكثر أمام الاستثمارات الأجنبية والتجارة الدولية وسيتم خفض أجور العمال والاستغناء عن الكثيرين منهم، وقد تجلى ذلك فى استعجال الكثير من مليارديرات العالم عودة العاملين فى مشروعاتهم إلى أعمالهم دون مراعاة مناسبة للشروط الصحية الضرورية التى ينبغى أن يعودوا فى ظلها إلى هذه الأعمال".